هناك الكثير من الأسماء التي نسمعها واعتدنا على سماعها، وربما تمر علينا دون أن نعرف معناها، ومن هذه الأسماء أسماء الشهور العربية وفي السطور التالية نغوص في أعماق لغتنا الجميلة؛ لنسلط الضوء على معانيها...
1- محرم: سُمِّيَ بذلك لأن العرب قبل الإسلام حرموا القتال فيه.
2- صفر: سمي بذلك لأن ديار العرب كانت تَصْفَر أي تخلو من أهلها؛ لخروجهم فيه ليقتاتوا ويبحثوا عن الطعام ويسافروا هربا من حر الصيف.
3- ربيع الأول: سمي بذلك لأن تسميته جاءت في الربيع فلزمه ذلك الاسم.
4- ربيع الآخِر: سمي بذلك لأن تسميته جاءت في الربيع أيضا فلزمه ذلك الاسم، ويقال فيه "ربيع الآخِر" ولا يقال "ربيع الثاني"؛ لأن الثاني تُوحي بوجود ثالث، بينما يوجد ربيعان فقط.
5- جُمادى الأولى: سمي بذلك لأن تسميته جاءت في الشتاء حيث يتجمد الماء؛ فلزمه ذلك الاسم.
6- جمادى الآخِرة: سمي بذلك لأن تسميته جاءت في الشتاء أيضًا؛ فلزمه ذلك الاسم. ويقال فيه "جمادى الآخِرة" ولا يقال "جمادى الثانية"؛ لأن الثانية توحي بوجود ثالثة، بينما يوجد جُماديان فقط.
7- رجب: سمي بذلك لأن العرب كانوا يعظمونه بترك القتال فيه، يقال رجب الشيءَ أي هابه وعظمه.
8- شعبان: سمي بذلك لأن العرب كانت تتشعب فيه (أي تتفرق)؛ للحرب والإغارات بعد قعودهم في شهر رجب.
9- رمضان: سمي بذلك اشتقاقا من الرمضاء، حيث كانت الفترة التي سمي فيها شديدة الحر، يقال: رمضت الحجارة.. إذا سخنت بتأثير الشمس.
10- شوال: سُمّي بذلك لأنه تسمى في فترة تشوَّلت فيها ألبان الإبل (نقصت وجف لبنها).
11- ذو القعدة: سمي بذلك لأن العرب كانت تقعد فيه عن القتال على اعتباره من الأشهر الحرم.
12- ذو الحجة: سمي بذلك لأن العرب عرفت الحج في هذا الشهر.
هناك علاقة تربط بين الشهور العربية و مفاهيم السلوك الحقي للإنسان على ظهر الأرض , هذه العلاقة وثيقة, و هناك ارتباط واضح بينهما ذلك لأن كل اسم من أسماء هذه الشهور، بل و ترتيبها يرمز إلى مراتب و درجات عن الحق .
قال الحق في كتابه العزيز " إن أنزلناه قرآنا عربيا " و فسر سيدي الإمام رافع معنى "عربي" أنه دلالة على أن هذا القرآن قد "عرى بي"، أي أنه قد أظهرني وكشف الحجاب عنى , أي عن الحق سبحانه و تعالى , فاظهر أفعاله و صفاته و أشار ضمنا إلي ذاته و كذلك هي الشهور العربية تكشف عن مدلول أسمائها , و تبين مراحل السلوك من خلال انتقال العرض الزماني من شهر إلي شهر , فكل شهر يختلف في زمانه و مدلوله عن الشهر الذي يسبقه ثم الشهر الذي يليه , و هكذا كانت الأزمان علي مر التاريخ البشري , لا يتشابه فيها زمانان ,فكل زمان له تجلي , يتجلى الله فيه للناس باسم من أسمائه وصفة من صفاته العلية ، و كل صفة و اسم يظهر به الحق ، يتناسب و الناس الموجودة في ذلك الزمان، و أهليتهم، و مراد الله بهم، و ما يريد الله كشفه و إظهاره من خلالهم .
و الشهور العربية هي علي الترتيب : المحرم - صفر - ربيع الأول -ربيع الآخر - جمادى الأولى - جمادي الآخرة - رجب - شعبان - رمضان - شوال - ذو القعدة - ذو الحجة .
و يلاحظ أن الشهور العربية تبدأ و تنتهي بشهر من الأشهر الحرم ، دلالة علي أن ما يصلح به أول الزمان يصلح به آخره ،و أول الزمان هو بداية السنة الهجرية ، و الهجرة هجرة إلي الله و رسوله ، تقتضي التجرد عن الدنيا و ما فيها ، و تقتضي الإحرام استعدادا لهذه الرحلة و التي تنتهي آخر ما تنتهي بالحج أو بشهر ذي الحجة ، و كأن الحق يخاطبنا قائلا أن هدف الرحلة الحياتية من خلال الاثني عشر شهرا إنما هي حج البيت ، و كما قيل " الحج عرفة" فكأن المراد من الرحلة هو تحصيل المعرفة ، معرفة الحق سبحانه و تعالي.
" و في أنفسكم أفلا تبصرون "(الذاريات 51 :21)
" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا "(آل عمران 3 :96)
أي أنه " بك " ، و القلب بيت الرب ،
و قيل أنه "من عرف نفسه فقد عرف ربه"... و بذلك كانت أول الشهور العربية تشير إلي حال من استعد للهجرة ، و آخرها يشير إلي هدف الهجرة ، فتعالوا نتدبر معا هذه الشهور في تتابعها ، لنستخلص سويا المعني المراد.....
شهر المحرم .. أي ذو الحرمة ، و هو يطلق في اللغة علي الإبل التي يصعب ركوبها ، و كأن ظهورها قد حرقت ، و هو أول شهور السنة الهجرية ، و ثالث الأشهر الحرم المتتابعة .
ومع بداية الهجرة يُحَرِّم المحرم القاصد وجه الله و رسوله كل ما حرمه الله و رسوله ، كقول الحق "إنما حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله"(البقرة 2 :173) ، ثم أنه بعد ذلك يحرم بقلبه عن كل ما يمنعه أو يعطله عن متابعة وجهته "وولي وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجهكم شطره "(البقرة 2 :144) ، و هو بذلك و إن كان يمارس حياته الطبيعية المادية ، إلا إنها لا تعطله عن بلوغ هدفه الذي ارتضاه ، بل إنه يتخذها مطية لبلوغ ذلك الهدف ، فهو مع كل فكر ، و قول ، و عمل ، وسلوك يعلم تماما أن مقصوده وجه الله ، فإذا علم الله صدق نيته و قوة توجهه ، جعل له نقطة حق يقتدي بها في توجهه فكان شهر صفر.
شهر صفر .. الصفر في اللغة هو الخالي من الأشياء ، وهو عند الحسابين رقم يدل علي الرتبة الخالية من الكمية ، و علامته نقطة ، ودرجة الصفر هي نقطة البدء ، و الله هو الأول .
قلنا أن من صدق إحرامه و توجهه ، أوجد الله له نقطة حق يتوجه إليها و يصاحبها في سلوكه ، فكان شهر صفر هو المعبر عنه بالنقطة ، رمزا يرمز به لتلك النقطة الحقية، وكما أن الصفر في اللغة هو الخالي من الأشياء، فكذلك هي نقطة الحق تكون خالية عن كل ما سوي الله ، إنها ترمز إلي الرجل الصالح ، إلي القيام الحقي ، إلي النور الرباني الذي لا ينقطع أبدا تواجده عن ظهر الأرض ، إنه السراج المنير المعبر عنه في كتاب الله بعباد الرحمن ، فيقول الحق " و عباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "(الفرقان 25 :63)
إن كل صفر أي كل نقطة ، هي في حد ذاتها دائرة ، و نقطة علي دائرة أخري لنقطة أكبر منها ، فكانت النقط المتواجدة علي الدائرة ، و المتوجهة إلي نقطتها تعبر عن كل من صدق في إحرامه متوجها إلي الله في شهر المحرم ، و كانت نقطة المركز بالنسبة لهم ، إنما هي الوسيلة لبلوغ الهدف النهائي من الرحلة و هو حج البيت ، فالنقطة تعبر عن البيت ، وهو بيت موضوع لبيت مرفوع ، فكانت النقطة دلالة علي الهدف المنشود تحقيقه في آخر الشهور العربية و هو ذو الحجة. و يقول الحق في كتابه العزيز " و كل شئ أحصيناه في إمام مبين " (يس 36 :12) فكان الإمام المبين إنما هو نقطة الحق في شهر صفر ، و كان من أدرك النقطة مؤهلا لميلاد الحق فيه ، إيذانا بقدوم هلال شهر ربيع الأول ثم ربيع الآخر.
شهري ربيع الأول ثم ربيع الآخر ..الربيع في اللغة هو النهر الصغير ، و هو أيضا الأخضر من النبات أي أن الربيع هو عين كل حياة، " و جعلنا من الماء كل شئ حي "(الأنبياء 21: 30) و الماء أصل كل أخضر يتقوت عليه الإنسان فترجم ميلاد الرسول في هذا الشهر عن حقيقته و كان رسول الله خلقه القرآن ، ووصف القرآن علي لسان " عمرو بن هشام" الملقب بأبي جهل بقوله : "إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمغدق" ، فعبر بذلك اعدي أعداء رسول الله عن حقيقته فانتصر الله بذلك لرسوله علي يد أعدائه لا علي يد أحبائه .
و كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم 12 ربيع الأول ، فأشار بذلك التاريخ إلي معني "ربيع الآخر " أي إلي من تحقق به مستكملا رحلته الحقية عبر الشهور العربية حتى ذي الحجة وهو الشهر الثاني عشر ، فكان رقم 12 يحمل في طيا ته الكمال و الاكتمال في الحقيقة المحمدية ، و كان شهر ربيع الآخر يعبر عن تكاثره " إنا أعطيناك الكوثر " (الكوثر 108 :1 )، و إلي قوله الحق " هو الذي يراك حين تقوم و تقلبك في الساجدين "(الشعراء 26 :218-219).
و بذلك كان شهرا " ربيع الأول " و "ربيع الآخر" يعبران تمام التعبير عن كل من توجه إلي نقطة حقية في "شهر صفر "فكان ذلك إيذانا و تلويحا لبدء ميلاد الحق فيه مرموزا له بربيع الأول ، ثم بشري التحقق به في نهاية السنة الهجرية مرموزا له بشهر ربيع الآخر .. إلا أن ذلك يكون للقلة،
"وما أكثر الناس و لو حرصت بمؤمنين "(يوسف 12 :103) أما الكثرة فتراهم مخاصمين لنقطة الحق حتى لو عرفوه ، فعبرت الشهور العربية عن ذلك بشهري جمادى الأولي ثم جمادى الآخرة.
جمادى الأولي - جمادى الآخرة : " جماد " في اللغة تقال لذم الرجل البخيل و يقال " أجمد فلان " أي دخل في شهور جمادى فاشتد بخله و قل خيره ، و منها أيضا " الجمد" أي الصلب المرتفع عن الأرض.
المعرض عن الحق ، المخاصم له ، المعاند لنوره ، هو من جحد نعمة الله عليه فلم يشكر هذه النعمة ، نعمة تواجده و إيجاده ليكسب الحياة الدائمة التي لا موت فيها و لا انحلال "و قليل من عبادي الشكور "(سبأ 34 :13) ، فكان اعراضه بخلا و شحا منه لمالك الملك الذي وهبه نعمة الحياة و فرصة الوجود " الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل " (النساء 4 : 37) ، و يصفهم الحق في موضع آخر بقوله " وأما من بخل و استغني و كذب بالحسنى فسنسيره للعسري "(الليل 92 : 8-9-10) ، .. و قلنا أيضا أن " الجمد " هو الصلب المرتفع عن الأرض ، و هي الحجارة و الصخور الصماء شبه بذلك الحق المعرضين عنه ، البخلاء ببذل نفوسهم من أجله ، بالحجارة الصماء التي لا حياة ظاهرة فيها " و تحسبهم أيقاظا و هم رقود "(الكهف 18 :18) . إلا أن الحق يحدثنا عنهم في موضع آخر قائلا "ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، و أن منه لما يشقق فيخرج منه الماء ، و أن منها لما يهبط من خشية الله ، و ما الله بغافل عما تعملون " (البقرة 2 : 74) .....فعنون الحق بذلك من كان أهلا لشهر رجب ، و رجب شهر الله ، فانفجرت من طبيعته الحجرية الماء ، الذي هو أصل الحياة بعد أن كان ميتا ، و هم القلة المغبوطة ، المصطفاة و ذلك لقول الحق : و أن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار فكان ذلك استثناء لتعميم و كانت هذه القلة هي المؤهلة لرؤية هلال شهر رجب .
شهر رجب : يقال في اللغة " رَجَبَ " فلانا أي خافه ، و هابه ، و عظمه ، وهو من الأشهر الحرم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رجب شهر الله " أي أنه الشهر الذي تتجلى فيه عظمة الله ، " ولمن خاف مقام ربه جنتان "(الرحمن 55 :46) ، و شهر رجب يحمل في طيات اسمه معني الجبر ، أي أن الله يجبر فيه ما انكسر و التوي من الأخلاق البشرية ليكملها فتستقيم علي مراد الله بها " اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم و لا الضالين "(الفاتحة 1 :5-6-7) ، أي أن الله يجبر من خافه وعظمه ، فيرده بعد ميله و اعوجاجه إلي الصراط المستقيم و من هنا قال الرسول" أنا أقربكم من الله و أخوفكم منه "، فافترق الناس في ذلك الموضع ، فمنهم من خاف الله و عظمه فجبره الله و رسوله ، و منهم من ظل علي التوائه و اعوجاجه ، فكان بعيدا بقيامه عن رحمة الله ، و رحمة الله إنما هي في رسول الله "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (الاتبياء 21 :107) ، فكان ذلك استهلالا لشهر شعبان.
شهر شعبان : جاء الاسم في اللغة من شَعَبَ ، و تشعب الشيء شِعبا أي فرقه و يقال شعب الصدع أي لمه و أصلحه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " شعبان شهري " أي أنه عندما أشهر محمدا رسولا لله وقدوة للناس ، اختلف فيه الناس فريقين ، فريق آمن و تابع ، و فريق ولي و استكبر مؤثرا عليه الحياة الدنيا " بل تؤثرون الحياة الدنيا و الآخرة خير و أبقي "(الأعلى 87 :16-17) ، و أن ذلك ليس بالأمر الجديد علي البشرية يا محمد ، بل هي سنة الناس علي الدوام من قديم الزمان و لذلك يكمل الحق قوله في الآية السابقة بقوله " إن هذا لفي الصحف الأولي صحف إبراهيم و موسى "(الأعلى 87 :18-19) .. أما من آمن و تابع ، فلقد تعرض لنفحات الله و رسوله و استجاب لهما ، فحيا بوجوده " يأبها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم "(الأنفال 8 :24) ، أما الشعب الآخر الذي تفرق عن الحق ، و آثر الحياة الدنيا فقد مات بانقطاعه عن مصدر الحياة و قطع بذلك وجوده عن ديمومة الحياة " و ما يستوي الأحياء ولا الأموات" ( فاطر 35 : 22) فكان المستجيب بذلك عرضه لهلال شهر رمضان.
شهر رمضان : مشتق في اللغة من رمض ، و رمض الشيء أي اشتد حره و يقال " رمضت الأرض " أي أشتد عليها وقع الشمس ، و" رمض الصائم "أي حر جوفه من شدة العطش،
و رمضت قدمه أي احترقت من الرمضاء و الرمضاء شدة الحر.
من ذلك نستنج أن رمضان هو شهر الجهاد و المعاناة ، شهر الكفاح الأكبر و من صفي فيه نفسه من شوائبها كان محلا لليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر ، و كان قلبه مهيأ لنزول الحق " فإذا قرأناه فاتبع قرأنه ثم إنا علينا بيانه "(القيامة 75 : 18-19) . والآية من سورة القيامة تشير إلي حال القارئ وقيامه.
و الشعب المصطفي من شعبان يكون محلا لاختبار الله و ابتلائه ، ليميز الله فيه الخبيث من الطيب
" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، و لقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين "(العنكبوت 29 : 2-3) ، و الآية وردت في سورة العنكبوت ، دلالة علي كون ذلك شرك يختبر الله به الناس لمعرفة قوة إيمانهم و يقينهم ، و لقد أوجب الله صيام ذلك الشهر تعبيرا عن الجهاد الأكبر ، الذي يصوم الناس فيه عن كل فكر و قول و عمل يخالف الفطرة النقية التي فطر الله الناس عليها ، بل أن الصوم في حد ذاته هو عود حميد إلي الفطرة ، ذلك أن الناس تعيش ذلك الشهر بأرواحهم، متخلين لفترة عن حاجات أجسادهم، فإن قاموا الشهر إيمانا و احتسابا غفر لهم ما تقدم من ذنبهم و ما تأخر كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم و ذلك لكونهم قد تخلوا عن مادي وجودهم مستجيـبـين لدعوة الحق " يأبها الذين آمنا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلي الأرض "(التوبة 9 :38)، و الآية وردت في سورة التوبة دلالة علي أن من ينفر في سبيل الله متخليا عن أرض ذاته يكون محلا للتوبة ، ثم تأتي آية أخرى في نفس السورة لتوضح جليا ذلك المعني في قول الحق " و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون "(التوبة9 : 81) ، و "فقه" الشيء أي كشف غطائه ، أي علم أن الحر المقصود إنما هو الكفاح المعبر عنه ب" الرمض " أي شدة الحر ، فأبرز المعني دلالة شهر رمضان ، فمن رابط و صابر و جاهد في الله حق جهاده ، كان محلا لنصر الله و مغفرته و رحمته ، و الرحمة الكبرى هو أن يكون محلا لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، و كيف لا وهي معني رسول الله الذي كان خلقه القرآن ، و الذي تنزل فيه كل أمر حكيم ، ذلك هو المقصود من قوله صلعم " تركتكم علي المحجة البيضاء " أي علي الفطرة السليمة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فحق له أن يفطر علي حق برؤية هلال شهر شوال.
شهر شوال : الكلمة لغويا مشتقة من "الشوْل " و هو البقية من اللبن في الضرع، أو بقية الماء في الإناء ، و الشوال بذلك يكون صيغة مبالغة عن كثير اللبن و الماء ، و كلاهما فطرة التي لم تمتد إليها يد صانع ، فكان الإفطار في شوال كناية عن الفطرة التي فطر الناس عليها " خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "(التين95 :4) ! ، أي علي الفطرة النقية ، فكانت نتيجة الكفاح في شهر رمضان سببا في عودة الإنسان إلي الفطرة ، فطرة الله "التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون " (الروم30 :30) فمن عاد إلي الفطرة أذن له في رؤية هلال ذي القعدة.
شهر ذي القعدة : الاسم لغويا مشتق من" القعدْ " و هم الذين لا يمضون إلي الحرب ، وكذلك يشير إلي "القَعِدة " و هو مقدار ما يأخذه القاعد في المكان ، و شهر ذي القعدة هو أول الأشهر الحرم الثلاثة المتتابعة و سمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الأسفار و الغزو
و المعني يكمن في كون من عاد إلي الفطرة النقية فقد وصل إلي نهاية الرحلة و مقصودها ، و هو البيت الحرام ، أو القبلة ، فقعد و استقر فيه ، إلا أنه لم يحج بعد .. قد انتهي سفره فقعد ، و تغلب علي نفسه فسالمته فكف عن الكفاح و الغزو ، و ذلك معني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح " فالواصل إلي هذا المقام قد اشهر هلال شهر ذي القعدة فقعد و عكف في ساحة البيت انتظارا للحج الأكبر " و عهدنا إلي إبراهيم و إسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود "((البقرة 2 :125) و الطائفين هم أهل شهر " صفر " ممن أدرك نقطة الحق فطاف حول النقطة في دائرتها ، أما العاكفين فهم من قربوا النقطة في دورا نهم حولها ، فعكفوا و قعدوا هناك انتظارا ليوم يكونون فيه من الركع السجود ، دلالة علي الاستسلام التام لنقطة الحق و ذلك لا يكون إلا بالتخلي تماما عن النفس في أرض المنحر بعد وقفة عرفة ، فهم من السعداء الذين سمعوا منادي الحق يؤذن للحج "و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و علي كل ضامر يأتينا من كل فج عميق " (الحج 22: 27). فمن استجاب للنداء من أهل ذي القعدة شاهد هلال شهر ذي الحجة.
شهر ذي الحجة : حج في اللغة تعني قصد المكان و قدم إليه وهو ثاني االأشهر الحرم المتتابعة.
الحج عرفة ، أي أن من بلغ مبلغا من المعرفة الحقية جعلته يدرك وهم وجوده ، و استحالة هذا الوجود المتخيل لسرعة فنائه و تلفه ، أدرك حداثة هذا الوجود مع الوجود القديم ، و كل حادث فان و زائل ، و القديم فقط هو الباقي ، فعرف قيومية وجوده الحادث بالقديم الباقي ، الواحد الأحد الفرد الصمد ، فأنكر وجوده وأثبت وجود الله ، واجب الوجود لكل موجود ، فعرف يوم أن وقف بعرفة أن إثبات وجوده ذنب لا يقاس به ذنب ، فرجم شيطانه ، و نحر نفسه قربانا لحقه ، ففني عن زائف وجوده المغاير لوجود ربه ، و بقي بربه القائم عليه بقيوميته وصمديته ، فكان شهر ذي الحجة إشهارا لذلك المعتي في الإنسان و قد انمحى باطله.
تلك هي دورة الزمان في الشهور العربية و قد جاءت معبرة تماما عن الهدف من وجود الإنسان علي هذه الأرض ، شارحة لمراحل تطوره و سلوكه ، فكان كل شهر من شهورها إشهارا بطور من أطواره في رحلة الغرض منها التحقق بالله و رسوله " يأبها الإنسان أنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه " (الأنشقاق 84: 6) . ذلك قسم من الله علي نفسه بلقاء عبده ، شريطة أن يكدح مجاهدا لنفسه ، ومؤهلا كيانه و وجوده للقاء ربه ، و الآية المذكورة من سورة الانشقاق دلالة علي ما إذا صدق الإنسان في جهاد نفسه بغية لقاء ربه انشقت منه ربو بيته ، فلاقي الحق في وجوده و قيامه و ذلك كقول الحق سبحانه و تعالي " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا" (الفرقان25 :45) و الآية من سورة الفرقان دلالة من الله علي بزوغ شمس المعرفة المنوه عنها بوقفة عرفة ، إذا ما فرق الإنسان عنه باطله و بقي بحقه.