في جعبتي قصة طويلة؛ هي قصة فتيات من العالم الإسلامي وُجدن في
زمن يكاد النور فيه أن ينطفئ، وأوشك الشعاع فيه أن يخبو، لكن كلهن أمل في أن هذا النور سيعود ليضيء من جديد، وأن هذا الشعاع سيرجع ليشرق على كل العالم يومًا ما.
اسمحوا لي أيها الأفاضل أن أكون "المتحدثة الرسمية باسم هؤلاء الفتيات"، فتيات قليلات، لكن لهن مع هذا الزمن صولات وجولات، وقصص وحكايات.. والغريب أن قصصنا متشابهة، ومراحل وأطوار حياتنا تكاد تكون نسخة طبق الأصل! وأنا الآن إذ أتكلم عن نفسي فإني في الواقع أتكلم تقريبًا عن كل واحدة من هؤلاء الفتيات القليلات، فأتمنى من الله سبحانه أن يسعكم صبركم للقراءة.
أنا فتاة نشأت في عائلة متحابة ومتماسكة، هي مزيج من ثقافتين؛ طرف متحرر دينيًّا.. ملتزم خلقيًّا.. منفتح فكريًّا واجتماعيًّا، وطرف محافظ "تقليدي!".. ملتزم خلقيًّا.. منغلق فكريًّا واجتماعيًّا.
رزقني الله سبحانه تفاؤلا وإيجابية مكنتني من اكتساب الحسن من كل طرف ونبذ ما أستطيع مما دون ذلك، لكنني عشت كما كثيرات من الفتيات (العاديّات) فتاة تصلي وتصوم.. متفوقة في جوانب حياتها، لكنها تفتقر للمعنى الحقيقي للإسلام، حتى منّ الله عز وجل عليّ بأناس أخذوا بيدي نحو طريق الالتزام.. ثم رحلوا.. وخلال شهرين تحولت حياتي بأكملها وانقلبت، وتولدت في نفسي طاقات هائلة توجهت كلها نحو ديني ومعتقدي، نحو هذه الأمة وهذا العالم، فصار همي الأول: قضية فلسطين خاصة، وخدمة الإسلام بكل ما أستطيع عامة.
بقيت سنة ونصف وحدي دون صحبة تشد من عزمي وترفع من همتي عاليًا.. صبرت واحتسبت وكنت أدعو الله سبحانه بحرقة: يا رب.. ارزقني صحبة صالحة، وحانت ساعة الإجابة؛ فكانت أول دعوة حقيقية صادقة تُستجاب لي.. كم فرحت بها، وكم كانت تشتد فرحتي حينما
أنظر إلى أخواتي في الله ونحن نزداد حبًا وترابطًا يومًا بعد يوم.
كانت أحلى لحظات عمري أقضيها معهن، نتعاهد ونتدارس أمور الدين والدنيا.. وكم بكينا.. وكم تحمسنا أثناء مسيرنا بين بحار وبرار.. بين سهول وجبال في كتاب الرقائق والعوائق وتفسير الظلال.. نسمات ونفحات تطل علينا فتمدنا بمزيد من الحب والإخاء والصفاء مضت سنوات قليلة.. كبرنا.. وبدأ يطرق بابنا الخطاب.
كم صُدمنا بالواقع وبما رأيناه من الناس في أمور الخطبة، مجتمع مريض فارغ، ورجال.. ليسوا رجالا يا سادتي الكرام، فحتى من خلال عملنا واحتكاكنا بالناس هنا وهناك.. وعبر نشاطاتنا الدعوية أو الاجتماعية، كنا نتصادف مع بعض الشباب الملتزمين.. تعرضت كل واحدة فينا لموقف مع أحدهم، موقف يتكرر مع كل واحدة فينا تمامًا أيها الأفاضل..
الشاب يعجب بواحدة منا.. يتحدث إليها في حدود بحجة قضايا هامة لنشاطاتنا، ثم يصارحها برغبته في خطبتها.. ثم يتعرقل الأمر بطريقة مؤلمة ومزعجة في طريقة انتهاء القصة، فقط تباينت قصصنا.. بين شاب لم يستطع الوقوف موقف رجل في خطبته للفتاة وخضع لرأي أهله رغم عدم وجود سبب للرفض سوى أن (ابنهم هو من اختارها.. وينبغي أن يختاروها له هم فقط.. هكذا تربى.. الأهل هم من يقررون له حياته بكل تفاصيلها)، وبين شاب يتحدث ويتشدق بالإسلام حتى تظنه وليًا من أولياء الصالحين، ثم يتبين أنه كان لا يجيد سوى الكلام.. أما الأفعال فهي أفعال المنافق الكاذب الذي لا يعرف عن إسلامه ومبادئه شيئًا!
وبين شاب ثالث، أوحى للفتاة بكل الوسائل أنه يريدها، حتى ضاقت به ذرعًا وطلبت منه التقدم رسميًا أو الابتعاد فقال: أنا لم أعدك بشيء! انتبهوا يا أفاضل.. لا زلت أتكلم عن تصرف شاب ملتزم في عرفنا! بعد الصدمة.. توالت الإحباطات حتى صرنا لا نؤمن بأن في بلدنا كله رجلا!! صرنا نرى أحلامنا بزوج: رجل صالح دينًا وخلقًا.. عاقل ومنفتح على هذه الدنيا ناجح فيها وليس منغلقًا.. ضرب من الخيال والأحلام بل ومن السخف والغباء! فهو غير موجود أو ربما هو موجود لكن في بلاد العجائب؛ حيث لا يصل إلينا ولا نصل إليه.. وحتى لو آمنا بوجوده بيننا فكيف نجده! وماذا يمكننا أن نفعل؟!
إن كان الرجال في بلدنا يا أساتذتي لا يملكون زمام المبادرة ولا قوة القرار.. فهل يعقل أن يكون هذا منا نحن الفتيات؟! وما زاد الطين بلة -كما يقولون- هو أني وبشكل خاص أعاني من ندرة الخطاب بعكس صديقاتي، ليس لقلة جمال أو علم أو سمعة، بل على العكس ولله الحمد والمنة والفضل، ولكن لسببين رئيسيين:
أولهما: أنني عشت في بلد الغربة أغلب حياتي حيث تقل الفرص هناك، وحيث يفضل أغلب شباب بلدنا الخطبة في الصيف من الفتيات المستقرات في بلدنا وليس في بلد الخليج التي كنت أعيش فيها.
ثانيهما: والدتي إنسانة رقيقة وطيبة جدًا.. لكنها للأسف غير اجتماعية ..